يجري الحديث كثيرا في الأوساط القانونية والقضائية وأحيانا المثقفين عموما عن ضرورة وضع قوانين “أنظمة” لعديد من النواحي غير المقننة حاليا؛ إلا أن البعض قد يتساءل ما ضرورة ذلك؟ وإلى أي حد هذا الأمر مهم؟
سبق أن طرحت عديدا من المقالات حول هذا الموضوع من جوانب عدة؛ إلا أنني أود التركيز باختصار على الجواب عن التساؤلات أعلاه لأهميتها.
بداية تجب الإشارة إلى أنني لا أعلم بلدا في العالم وخصوصا العالم المتقدم إلا ويكون التقنين والإلزام في المبادئ القانونية لديه أمر محسوم منذ قرون ربما، وحتى تلك البلدان التي تأخذ بمبدأ القانون الإنجلوساكسوني فإنها تعتمد التقنين من طريقين؛ الأول بالتشريع القانوني المتصاعد بشكل سريع حتى نشأ ما يسمى بمنهج القانون الهجين في كثير من تلك الدول، والثاني هو من خلال الإلزام بالمبادئ والسوابق القضائية التي تكون ملزمة لجميع محاكم الدولة كالقانون تماما إلا أنها لا تأخذ شكل القوانين في ترتيباتها وهيكلتها.
هذه الحقيقة الواقعية تجعلنا نعرف إلى أي مدى يعتبر هذا الأمر مهما في انتظام القانون وتطبيقاته في الدول وحاجة الناس وكذلك الدولة لتحديد القانون الواجب التطبيق بالضبط.
استمعت لبعض المهتمين الذين يرددون بجهل مقارنة التطبيق القضائي لدينا بما هو ممارس في الدول الإنجلوساكسونية، الأمر المختلف تماما، ومع الأسف أن بعضهم يكون مبدأه مجرد الرفض للنقد دون أدنى موضوعية أو بحث علمي متجرد.
هناك جوانب لا تحصى تكشف أهمية التقنين والإلزام بالمبادئ القانونية، منها أيضا أن الوضوح في القانون الواجب التطبيق من أساسيات عدالة القانون والقضاء، بل حتى إذا كان القانون مكتوبا ولكن يشوبه عدم الوضوح فإن الواجب أن تعالج هذه النقطة، فما بالك بعدم وجود قانون أصلا، مضافا إلى ذلك حرية القاضي في اختيار أي الآراء شاء (من ضمن قواعد شرعية بالتأكيد إلا أن المساحة تبقى كبيرة).
في الحقيقة؛ إن اختصاص القاضي حاليا بأنه هو من يختار الرأي الملزم (القانون الواجب التطبيق)، وهو من يحكم به، فإن القاضي حاليا يمارس اختصاصا تشريعيا ــــ حسب المصطلحات الحديثة- واختصاصا قضائيا أيضا، وهذه النقطة مما يتعارض كليا مع مبادئ الحوكمة القضائية التي تعزل السلطات عن بعضها البعض وتسعى لضبطها بشفافية ووضوح.
أمر آخر مهم جدا؛ أن من معايير الحوكمة والنزاهة؛ أن تكون القواعد القانونية الأصلية والفرعية في كل جوانب القانون منشورة وواضحة، وهذا ما يؤدي لتعزيز المحاسبة والشفافية في الجهاز القضائي، فوضوحها يحمي القضاء أولا من تهمة عدم الحياد، لكون القواعد القانونية منشورة وملزمة، كما أنها تحمي المواطنين من احتمال تعرضهم للفساد وعدم النزاهة أيضا، وهذا الأمر من أساسيات الحوكمة الرشيدة في العالم كله.
الخلاصة؛ أن التقنين يعتبر في أقصى الضرورات المُلحّة لتطوير القضاء، وهو في نظري أهم نقطة مُلحّة لأجل التطوير والتحديث، وكلي أمل في القيادة الشابة في القضاء أنها ستأخذنا إلى قضاء حديث ومتطور بقيادة وتوجيه خادم الحرمين الشريفين وولي عهده ـــ حفظهما الله.
لماذا نصر على ضرورة التقنين؟
التعليقات معطلة.