أصدر الملك سلمان بن عبدالعزيز صباح يوم امس السبت 22 رمضان 1438هـ عدة أوامر ملكية، كان من بينها وأبرزها أمر ملكي قد يعتبره البعض تاريخيًا، وأنه القفزة الأبرز نحو نهضة السلك العدلي، وهو تحويل مسمى “هيئة التحقيق والادعاء العام” التي تأسست عام 1409هـ إلى مسمى (النيابة العامة). وهذا هو المسمى المتعارف عليه في أكثر المجتمعات. كما نصّ الأمر كذلك على أن ينتقل الإشراف عليها -النيابة العامة- من وزارة الداخلية إلى الملك مباشرةً.
واشتمل هذا الأمر كذلك على تكليف هيئة الخبراء في مجلس الوزراء بمراجعة نظام “الهيئة”، واقتراح تعديل ما يلزم خلال فترة أقصاها 90 يومًا. هذا بالإضافة إلى إعفاء الرئيس السابق للهيئة وإلغاء هذا المسمى الوظيفي وتعيين رئيس جديد للنيابة العامة مسماه الحالي النائب العام. وبالتالي فإن مهمة النائب العام ستتمثل في تحريك الدعوى الجزائية والادعاء بها أمام المحكمة المختصة نيابة عن الدولة والمجتمع. ويحدث هذا التمثيل عبر توكيل مجموعة من الأشخاص يطلق عليهم وكلاء النائب العام أو وكلاء النيابة.
وأبرز مهام هذه النيابة هي: التحقيق، ورفع الدعوى للجهة المختصة أو حفظها، والادعاء العام أمام الجهات القضائية، وطلب تمييز الأحكام، والإشراف على تنفيذ الأحكام الجزائية، بالإضافة إلى الرقابة والتفتيش على السجون ودور التوقيف وغيرها من الاختصاصات والمهام.
وكان هذا الأمر مُسببًا بعدة عناصر أبرزها ضمان استقلالية هذه الجهة، وتماشيًا مع القواعد المتبعة في الدول الأخرى، والأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات. وسيؤدي ذلك إلى فصل النيابة كسلطة قضائية وعدم خضوعها للسلطة التنفيذية المتمثلة في وزارة الداخلية، وارتباطها مباشرة بالملك باعتباره رئيسًا للسلطات الثلاث.
البعض اعتبر أن هذا القرار لا يعدو كونه تغييرًا في المسميات لا أكثر، وأن الإجراءات ستبقى كما هي. بينما في الواقع فإن هذه الخطوة تُعد قفزةً من شأنها أن تساهم في تطوير المجال العدلي والقضائي. وهذا سينعكس إيجابًا على مهنة المحاماة وقواعد ممارستها. وعلى سبيل المثال فإن هذا القرار سيُسرّع إجراءات التقاضي في بعض القضايا وذلك لأنها ستُرفع مباشرةً من النيابة إلى الملك. فهذا التنظيم سيُمثّل اختصارًا للإجراءات التي كان معمولًا بها سابقًا، إذ أن هذه القضايا كانت تُرفع من هيئة التحقيق والادعاء العام، ثم إلى وزارة العدل، ثم تُحال القضية من وزارة العدل إلى وزير الداخلية الذي يحيلها بدوره إلى الملك.
هذا التعديل يدعو المحامين إلى التفاؤل بحدوث خطوات لاحقة من شأنها تطوير القضاء ومهنة المحاماة التي يعتبرها البعض لا تزال تراوح مرحلة المخاض. كل ذلك سيصب في صالح العدالة الاجتماعية والإصلاح. كما يأمل المنتمون لهذه المهنة وكل مهتم بشأن التطوير والتنمية والإصلاح بأن هذا التغيير سيدعم الوصول إلى الهدف الأسمى لكل هؤلاء وهو سيادة القانون.
الجدير بالذكر أن هذا الأمر الملكي تضّمن تعبيرًا ربما لم يسبق أن تداولته قرارات الدولة من قبل، وهو أن هذا القرار جاء متماشيًا مع القواعد والمبادئ النظامية المتبعة في العديد من دول العالم. فالمجال القانوني لدينا يتفرد ببعض الخصائص كاستخدام مسمى النظام بدلًا من القانون، وعدم ارتداء المحامين للزي المعتاد لزملائهم في جميع دول العالم الأخرى. كما أننا نفتقر إلى المرافعات الشفهية أمام المحاكم، إذ يُقدِم المحامون مرافعاتهم مكتوبةً إلى المحكمة. إذًا فإن هذا التغيير في مسمى هيئة الادعاء يمكن اعتباره نهاية لمرحلةٍ سابقة، ومواكبةً للمجتمعات المتقدمة في المجالين القانوني والقضائي، وهذا ربما يحقق الارتقاء بالمهنة.
كما أن هذا التحول قد رفع سقف الطموحات بأن تتحرك دفة الإصلاح بشكلٍ أسرع، وأن نشهد “ربيعًا عدليًا” قبل أن يرحل الجيل المعاصر. وأن نتخلى عن فكرة أن تحسين أداء المهنة يتطلب الكثير من الوقت والتعثر بحيث لن تشهده إلا الأجيال القادمة. فمن الوارد مثلًا أننا سنعاصر العديد من الخطوات الهامة مثل استحداث ميثاق شرف مهني للمحامين والقضاة، وتعديلًا في الأنظمة وعلى الأخص نظام الإجراءات الجزائية ونظام المحاماة، واستحداث نظام للعقوبات. وقد نرى أيضًا إنشاء جهاتٍ من شأنها إصدار تقارير دورية عن سير العدالة، وأداء القضاة، ومدى نزاهة القضاء. وعن حال مهنة المحاماة.
وحتى من الناحية الاقتصادية فإنه يمكن أن نرى مثلًا نظامًا يُسّهل للمحامين الحصول على نسخٍ من ملفات القضايا من النيابة العامة وذلك مقابل رسم معين كما هو معمولٌ به في الدول الأخرى كالبحرين والكويت. وهذا الرسم لا يتجاوز في هذه الدول مبلغ المائتي (200) ريال. هذه الخطوة إن حدثت قد تؤثر بشكل إيجابي في اقتصاد المجال القضائي والعدلي، وسوق المحاماة، إذ أنه من الممكن استخدام هذه المبالغ والتي من المتوقع أن تصل إلى ثلاثمائة (300) مليون ريال وهذه الأموال يمكن استخدامها في تطوير المرافق وتحسين مستوى الأداء وغيرها من الأوجه التي يُمكن إنفاقها فيها.
على ضوء ما سبق، يمكن القول بأن هذا الأمر لم يهدف فقط إلى تغيير المسميات وانتقال جهة الإشراف والرقابة على النيابة العامة من وزارة الداخلية إلى رأس السلطات، بل قد تكون الغاية هي تعزيز دولة القانون، واستقلال السلطة القضائية عن باقي السلطات، وتقليص تأثير السلطة التنفيذية على القضاء.
إيمان الحكيم
مستشارة قانونية